فصل: تفسير الآيات (45- 50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (45- 50):

{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)}
قوله: {وَكَتَبْنَا} معطوف على أنزلنا التوراة، ومعناها فرضنا، بين الله سبحانه في هذه الآية ما فرضه على بني إسرائيل: من القصاص في النفس، والعين، والأنف، والأذن، والسنّ، والجروح.
وقد استدلّ أبو حنيفة وجماعة من أهل العلم بهذه الآية فقالوا: إنه يقتل المسلم بالذميّ لأنه نفس.
وقال الشافعي وجماعة من أهل العلم: إن هذه الآية خبر عن شرع من قبلنا وليس بشرع لنا.
وقد قدّمنا في البقرة في شرح قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} [البقرة: 178] ما فيه كفاية.
وقد اختلف أهل العلم في شرع من قبلنا هل يلزمنا أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنه يلزمنا إذا لم ينسخ، وهو الحق.
وقد ذكر ابن الصباغ في الشامل إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه. قال ابن كثير في تفسيره: وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة لعموم هذه الآية الكريمة انتهى.
وقد أوضحنا ما هو الحق في هذا في شرحنا على المنتقى، وفي هذه الآية توبيخ لليهود وتقريع لكونهم يخالفون ما كتبه الله عليهم في التوراة كما حكاه هنا، ويفاضلون بين الأنفس كما سبق بيانه، وقد كانوا يقيدون بني النضير من بني قريظة، ولا يقيدون بني قريظة من بني النضير.
قوله: {والعين بالعين} قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، وأبو جعفر بالنصب أيضاً في الكل إلا في الجروح فبالرفع. وقرأ الكسائي، وأبو عبيد بالرفع في الجميع عطفاً على المحل؛ لأن النفس قبل دخول الحرف الناصب عليها كانت مرفوعة على الابتداء.
وقال الزجاج: يكون عطفاً على المضمر في النفس؛ لأن التقدير: إن النفس هي مأخوذة بالنفس، فالأسماء معطوفة على هي. قال ابن المنذر: ومن قرأ بالرفع جعل ذلك ابتداء كلام يتضمن بيان الحكم للمسلمين. والظاهر من النظم القرآني أن العين إذا فقئت حتى لم يبق فيها مجال للإدراك أنها تفقأ عين الجاني بها، والأنف إذا جدعت جميعها فإنها تجدع أنف الجاني بها، والأذن إذا قطعت جميعها فإنها تقطع أذن الجاني بها، وكذلك السنّ؛ فأما لو كانت الجناية ذهبت ببعض إدراك العين، أو ببعض الأنف، أو ببعض الأذن، أو ببعض السنّ، فليس في هذه الآية ما يدلّ على ثبوت القصاص.
وقد اختلف أهل العلم في ذلك إذا كان معلوم القدر يمكن الوقوف على حقيقته، وكلامهم مدوّن في كتب الفروع. والظاهر من قوله: {والسن بالسن} أنه لا فرق بين الثنايا والأنياب والأضراس والرباعيات، وأنه يؤخذ بعضها ببعض؛ ولا فضل لبعضها على بعض. وإليه ذهب أكثر أهل العلم، كما قال ابن المنذر، وخالف في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن تبعه، وكلامهم مدوّن في مواطنه، ولكنه ينبغي أن يكون المأخوذ في القصاص من الجاني هو المماثل للسنّ المأخوذة من المجنيّ عليه، فإن كانت ذاهبة فما يليها.
قوله: {والجروح قِصَاصٌ} أي ذوات قصاص.
وقد ذكر أهل العلم أنه لا قصاص في الجروح التي يخاف منها التلف، ولا فيما كان لا يعرف مقداره عمقاً أو طولاً أو عرضاً.
وقد قدّر أئمة الفقه أرش كل جراحة بمقادير معلومة، وليس هذا موضع بيان كلامهم، ولا موضع استيفاء بيان ما ورد له أرش مقدّر. قوله: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} أي: من تصدّق من المستحقين للقصاص بالقصاص، بأن عفا عن الجاني فهو كفارة للمتصدّق يكفر الله عنه بها ذنوبه. وقيل إن المعنى: فهو كفارة للجارح فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة، لأن العفو يقوم مقام أخذ الحق منه. والأوّل أرجح، لأن الضمير يعود على هذا التفسير الآخر إلى غير مذكور. قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} ضمير الفصل مع اسم الإشارة، وتعريف الخبر يستفاد منها أن هذا الظلم الصادر منهم ظلم عظيم بالغ إلى الغاية.
قوله: {وَقَفَّيْنَا على ءاثارهم بِعَيسَى ابن مَرْيَم} هذا شروع في بيان حكم الإنجيل بعد بيان حكم التوراة، أي جعلنا عيسى ابن مريم يقفو آثارهم، أي آثار النبيين الذين أسلموا من بني إسرائيل، يقال قفيته مثل عقبته إذا اتبعته؛ ثم يقال قفيته بفلان وعقبته به فيتعدى إلى الثاني بالباء، والمفعول الأول محذوف استغناء عنه بالظرف، وهو على آثارهم؛ لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه، وانتصاب {مُصَدّقاً} على الحال من عيسى {وَآتَيْنَاهُ الإنجيل} عطف على قفينا، ومحل الجملة أعني: {فِيهِ هُدًى} النصب على الحال من الإنجيل و{نُورٌ} عطف على هدى.
وقوله: {وَمُصَدّقًا} معطوف على محل {فِيهِ هُدًى} أي: أن الإنجيل أوتيه عيسى حال كونه مشتملاً على الهدى والنور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة؛ وقيل إن مصدّقاً معطوف على مصدّقاً الأوّل، فيكون حالا من عيسى مؤكداً للحال الأول ومقرّراً له. والأوّل أولى؛ لأن التأسيس خير من التأكيد. قوله: {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتَّقِينَ} عطف على مصدّقاً داخل تحت حكمه منضماً إليه: أي مصدقاً وهادياً وواعظاً للمتقين.
قوله: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَا أَنزَلَ الله فِيهِ} هذا أمر لأهل الإنجيل بأن يحكموا بما أنزل الله فيه، فإنه قبل البعثة المحمدية حق، وأما بعدها فقد أمروا في غير موضع بأن يعملوا بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن الناسخ لكل الكتب المنزلة. وقرأ الأعمش وحمزة بنصب الفعل من يحكم على أن اللام لام كي، وقرأ الباقون بالجزم على أن اللام للأمر.
فعلى القراءة الأولى، تكون اللام متعلقة بقوله: وآتيناه الإنجيل ليحكم أهله بما أنزل الله فيه، وعلى القراءة الثانية: هو كلام مستأنف. قال مكي: والاختيار بالجزم، لأن الجماعة عليه، ولأن ما بعده من الوعيد والتهديد يدلّ على أنه إلزام من الله لأهل الإنجيل.
وقال النحاس: والصواب عندي أنهما قراءتان حسنتان؛ لأن الله سبحانه لم ينزل كتاباً إلا ليعمل بما فيه.
قوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب} خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، والكتاب القرآن والتعريف للعهد، و{بالحق} متعلق بمحذوف وقع حالاً: أي متلبساً بالحق؛ وقيل هو حال من فاعل أنزلنا؛ وقيل من ضمير النبي صلى الله عليه وسلم و{مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} حال من الكتاب، والتعريف في الكتاب أعني قوله: {مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب} للجنس: أي أنزلنا إليك يا محمد القرآن حال كونه متلبساً بالحق وحال كونه مصدّقاً لما بين يديه من كتب الله المنزلة؛ لكونه مشتملاً على الدعوة إلى الله، والأمر بالخير، والنهي عن الشرّ، كما اشتمل عليه قوله: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} عطف على مصدّقاً، والضمير في عليه عائد إلى الكتاب الذي صدقه القرآن وهيمن عليه، والمهيمن الرقيب؛ وقيل الغالب المرتفع؛ وقيل الشاهد: وقيل الحافظ؛ وقيل المؤتمن. قال المبرد: أصله مؤيمن أبدل من الهمزة هاء، كما قيل في أرقت الماء هرقت، وبه قال الزجاج وأبو عليّ الفارسي.
وقال الجوهري: هو من أمن غيره من الخوف، وأصله أأمن فهو مؤأمن بهمزتين قلبت الثانية ياء كراهة لاجتماعهما، فصار مؤيمن ثم صيرت الأولى هاء، كما قالوا هراق الماء وأراقه، يقال هيمن على الشيء يهيمن: إذا كان له حافظاً، فهو له مهيمن كذا عن أبي عبيد. وقرأ مجاهد وابن محيصن: {مهيمنا عليه} بفتح الميم، أي: هيمن عليه الله سبحانه. والمعنى على قراءة الجمهور: أن القرآن صار شاهداً بصحة الكتب المنزلة ومقرّراً لما فيها مما لم ينسخ، وناسخاً لما خالفه منها، ورقيباً عليها وحافظاً لما فيها من أصول الشرائع، وغالباً لها لكونه المرجع في المحكم منها والمنسوخ، ومؤتمناً عليها لكونه مشتملاً على ما هو معمول به منها وما هو متروك.
قوله: {فاحكم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ الله} أي: بما أنزله إليك في القرآن؛ لاشتماله على جميع ما شرعه الله لعباده في جميع الكتب السابقة عليه {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} أي: أهواء أهل الملل السابقة. وقوله: {عَمَّا جَاءكَ مِنَ الحق} متعلق بلا تتبع على تضمينه معنى لا تعدل أو لا تنحرف {عَمَّا جَاءكَ مِنَ الحق} متبعاً لأهوائهم؛ وقيل متعلق بمحذوف: أي لا تتبع أهواءهم عادلاً أو منحرفاً عن الحق. وفيه النهي له صلى الله عليه وسلم عن أن يتبع أهوية أهل الكتاب، ويعدل عن الحق الذي أنزله الله عليه، فإن كل ملة من الملل تهوى أن يكون الأمر على ما هم عليه، وما أدركوا عليه سلفهم، وإن كان باطلاً منسوخاً أو محرّفاً عن الحكم الذي أنزله الله على الأنبياء، كما وقع في الرجم ونحوه مما حرفوه من كتب الله.
قوله: {لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا} الشرعة والشريعة في الأصل: الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى الماء، ثم استعملت فيما شرعه الله لعباده من الدين. والمنهاج: الطريقة الواضحة البينة.
وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد الشريعة: ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستمر. ومعنى الآية: أنه جعل التوراة لأهلها، والإنجيل لأهله، والقرآن لأهله، وهذا قبل نسخ الشرائع السابقة بالقرآن، وأما بعده فلا شرعة ولا منهاج إلا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: {وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة} بشريعة واحدة وكتاب واحد ورسول واحد {ولكن لّيَبْلُوَكُمْ} أي ولكن لم يشأ ذلك الاتحاد، بل شاء الابتلاء لكم باختلاف الشرائع، فيكون {لِيَبْلُوَكُمْ} متعلقاً بمحذوف دلّ عليه سياق الكلام وهو ما ذكرنا، ومعنى: {فِيمَا ءاتاكم} فيما أنزله عليكم من الشرائع المختلفة باختلاف الأوقات والرسل هل تعملون بذلك وتذعنون له، أو تتركونه وتخالفون ما اقتضته مشيئة الله وحكمته، وتميلون إلى الهوى وتشترون الضلالة بالهدى؟ وفيه دليل على أن اختلاف الشرائع هو لهذه العلة، أعني الابتلاء والامتحان، لا لكون مصالح العباد مختلفة باختلاف الأوقات والأشخاص. قوله: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} أي: إذا كانت المشيئة قد قضت باختلاف الشرائع فاستبقوا إلى فعل ما أمرتم بفعله وترك ما أمرتم بتركه. والاستباق: المسارعة {إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} لا إلى غيره وهذه الجملة كالعلة لما قبلها.
قوله: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} عطف على الكتاب: أي أنزلنا عليك الكتاب والحكم بما فيه.
وقد استدلّ بهذا على نسخ التخيير المتقدّم في قوله: {أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} وقد تقدم تفسير {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ}. قوله: {واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ الله إِلَيْكَ} أي: يضلوك عنه ويصرفوك بسبب أهوائهم التي يريدون منك أن تعمل عليها وتؤثرها {فَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} أي إن أعرضوا عن قبول حكمك بما أنزل الله عليك، فذلك لما أراده الله من تعذيبهم ببعض ذنوبهم وهو ذنب التولي عنك، والإعراض عما جئت به {وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الناس لفاسقون} متمرّدون عن قبول الحق خارجون عن الإنصاف.
قوله: {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} الاستفهام للإنكار والتوبيخ، والفاء للعطف على مقدّر كما في نظائره. والمعنى: أيعرضون عن حكمك بما أنزل الله عليك ويتولون عنه ويبتغون حكم الجاهلية، والاستفهام في {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} للإنكار أيضاً: أي: لا أحسن من حكم الله عند أهل اليقين لا عند أهل الجهل والأهواء.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس {كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} في التوراة.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عنه، قال: كتب عليهم هذا في التوراة، وكانوا يقتلون الحرّ بالعبد، فيقولون كتب علينا أن النفس بالنفس.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن ابن عمر في قوله: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} قال: يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدّق به.
وأخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} قال: للمجروح.
وأخرج أحمد، والترمذي، وابن ماجه، عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم يصاب بشيء في جسده فيتصدّق به إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة».
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} قال: مؤتمناً عليه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي عنه قال: المهيمن الأمين، والقرآن أمين على كل كتاب قبله.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد ابن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ وابن مردويه عنه في قوله: {شِرْعَةً ومنهاجا} قال: سبيلاً وسنة.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد، وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا أن نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا: يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود، وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك، فتقضى لنا عليهم ونؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك، وأنزل الله فيهم: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله} إلى قوله: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} قال: يهود.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: هذا في قتيل اليهود.

.تفسير الآيات (51- 56):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)}
قوله: {ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ} الظاهر أنه خطاب للمؤمنين حقيقة؛ وقيل المراد بهم: المنافقون، ووصفهم بالإيمان باعتبار ما كانوا يظهرونه.
وقد كانوا يوالون اليهود والنصارى فنهوا عن ذلك. والأولى: أن يكون خطاباً لكل من يتصف بالإيمان أعمّ من أن يكون ظاهراً وباطناً أو ظاهراً فقط، فيدخل المسلم والمنافق، ويؤيد هذا قوله: {فَتَرَى الذين في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} والاعتبار بعموم اللفظ، وسيأتي في بيان سبب نزول الآية ما يتضح به المراد. والمراد من النهي عن اتخاذهم أولياء، أن يعاملوا معاملة الأولياء في المصادقة والمعاشرة والمناصرة.
وقوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} تعليل للنهي، والمعنى: أن بعض اليهود أولياء البعض الآخر منهم، وبعض النصارى أولياء البعض الآخر منهم، وليس المراد بالبعض إحدى طائفتي اليهود والنصارى، وبالبعض الآخر الطائفة الأخرى للقطع بأنهم في غاية من العداوة والشقاق {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَئ وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَئ} [البقرة: 118] وقيل: المراد أن كل واحدة من الطائفتين توالي الأخرى وتعاضدها، وتناصرها على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وعداوة ما جاء به، وإن كانوا في ذات بينهم متعادين متضادّين. ووجه تعليل النهي بهذه الجملة أنها تقتضي أن هذه الموالاة هي شأن هؤلاء الكفار لا شأنكم، فلا تفعلوا ما هو من فعلهم فتكونوا مثلهم، ولهذا عقب هذه الجملة التعليلية بما هو كالنتيجة لها فقال: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} أي: فإنه من جملتهم وفي عدادهم وهو وعيد شديد فإن المعصية الموجبة للكفر، هي التي قد بلغت إلى غاية ليس وراءها غاية. وقوله: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} تعليل للجملة التي قبلها: أي أن وقوعهم في الكفر هو بسبب عدم هدايته سبحانه لمن ظلم نفسه بما يوجب الكفر كمن يوالى الكافرين.
قوله: {فَتَرَى الذين في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يسارعون فِيهِمْ} الفاء للسببية، والخطاب إما للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له: أي: ما ارتكبوه من الموالاة ووقعوا فيه من الكفر هو بسبب ما في قلوبهم من مرض النفاق. وقوله: {يسارعون} في محل نصب إما على أنه المفعول الثاني إذا كانت الرؤية قلبية أو على أنه حال إذا كانت بصرية، وجعل المسارعة في موالاتهم مسارعة فيهم للمبالغة في بيان رغوبهم في ذلك، حتى كأنهم مستقرّون فيهم داخلون في عدادهم.
وقد قرئ: {فيرى} بالتحتية. واختلف في فاعله ما هو؟ فقيل: هو الله عزّ وجلّ؛ وقيل: هو كل من تصح منه الرؤيا؛ وقيل: هو الموصول ومفعوله: {يسارعون فِيهِمْ} على حذف أن المصدرية: أي فيرى القوم الذين في قلوبهم مرض أن يسارعوا فيهم، فلما حذفت ارتفع الفعل كقوله:
ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغا

والمرض في القلوب: هو النفاق والشك في الدين. وقوله: {يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} جملة مشتملة على تعليل المسارعة في الموالاة: أي أن هذه الخشية هي الحاملة لهم على المسارعة؛ وقيل إن الجملة حال من ضمير يسارعون. والدائرة: ما تدور من مكاره الدهر: أي نخشى أن تظفر الكفار بمحمد صلى الله عليه وسلم، فتكون الدولة لهم وتبطل دولته فيصيبنا منهم مكروه، ومنه قول الشاعر:
يردّ عنك القدر المقدورا ** ودائرات الدهر أن تدورا

أي: دولات الدهر الدائرة من قوم إلى قوم.
وقوله: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِىَ بالفتح} ردّ عليهم ودفع لما وقع لهم من الخشية، وعسى في كلام الله وعد صادق لا يتخلف. والفتح: ظهور النبيّ صلى الله عليه وسلم على الكافرين، ومنه ما وقع من قتل مقاتلة بني قريظة وسبي ذراريهم، وإجلاء بني النضير؛ وقيل هو فتح بلاد المشركين على المسلمين؛ وقيل فتح مكة. والمراد بالأمر من عنده سبحانه: هو كل ما تندفع به صولة اليهود ومن معهم وتنكسر به شوكتهم؛ وقيل: هو إظهار أمر المنافقين وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بما أسروا في أنفسهم وأمره بقتلهم؛ وقيل: هو الجزية التي جعلها الله عليهم؛ وقيل: الخصب والسعة للمسلمين، فيصبح المنافقون {على مَا أَسَرُّواْ في أَنفُسِهِمْ نَادِمِين} من النفاق الحامل لهم على الموالاة {نادمين} على ذلك؛ لبطلان الأسباب التي تخيلوها وانكشاف خلافها.
قوله: {وَيَقُولُ الذين ءامَنُواْ} قرأ أبو عمرو، وابن أبي إسحاق، وأهل الكوفة بإثبات الواو، وقرأ الباقون بحذفها، فعلى القراءة الأولى مع رفع يقول يكون كلاماً مبتدأ، مسوقاً لبيان ما وقع من هذه الطائفة، وعلى قراءة النصب: يكون عطفاً على {فَيُصْبِحُواْ} وقيل: على {يَأْتِىَ} والأولى أولى؛ لأن هذا القول إنما يصدر عن المؤمنين عند ظهور ندامة الكافرين لا عند إتيان الفتح؛ وقيل هو معطوف على الفتح كقول الشاعر:
للبس عباءة وتقرّ عيني

وأما على قراءة حذف الواو فالجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر، والإشارة بقوله: {أهؤلاء} إلى المنافقين أي يقول الذين آمنوا مخاطبين لليهود مشيرين إلى المنافقين: {أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} بالمناصرة والمعاضدة في القتال، أو يقول بعض المؤمنين لبعض مشيرين إلى المنافقين، وهذه الجملة مفسرة للقول. وجهد الأيمان: أغلظها، وهو منصوب على المصدر أو على الحال. أي: أقسموا بالله جاهدين. قوله: {حَبِطَتْ أعمالهم} أي: بطلت وهو من تمام قول المؤمنين، أو جملة مستأنفة، والقائل الله سبحانه. والأعمال هي التي عملوها في الموالاة أو كل عمل يعملونه.
قوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِه} قرأ أهل المدينة والشام يرتدد بدالين بفك الإدغام، وهي لغة تميم، وقرأ غيرهم بالإدغام.
وهذا شروع في بيان أحكام المرتدّين، بعد بيان أن موالاة الكافرين من المسلم كفر، وذلك نوع من أنواع الردّة. والمراد بالقوم الذين وعد الله سبحانه بالإتيان بهم هم: أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجيشه من الصحابة والتابعين، الذين قاتل بهم أهل الردّة، ثم كل من جاء بعدهم من المقاتلين للمرتدّين في جميع الزمن، ثم وصف سبحانه هؤلاء القوم بهذه الأوصاف العظيمة، المشتملة على غاية المدح ونهاية الثناء من كونهم يحبون الله وهو يحبهم، ومن كونهم: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين يجاهدون في سَبِيلِ الله وَلاَ يخافون لَوْمَةَ لائِمٍ} والأذلة: جمع ذليل لا ذلول، والأعزّة: جمع عزيز: أي يظهرون العطف والحنوّ والتواضع للمؤمنين ويظهرون الشدة والغلظة والترفع على الكافرين، ويجمعون بين المجاهدة في سبيل الله، وعدم خوف الملامة في الدين، بل هم متصلبون لا يبالون بما يفعله أعداء الحق، وحزب الشيطان من الإزراء بأهل الدين، وقلب محاسنهم مساوئ، ومناقبهم مثالب، حسداً وبغضاً، وكراهة للحق وأهله، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدّم من الصفات التي اختصهم الله بها. والفضل: اللطف والإحسان.
قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله} لما فرغ سبحانه من بيان من لا تحلّ موالاته، بيّن من هو الوليّ الذي تجب موالاته، ومحل {الذين يُقِيمُونَ الصلاة} الرفع على أنه صفة للذين آمنوا، أو بدل منه، أو النصب على المدح. وقوله: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} جملة حالية من فاعل الفعلين اللذين قبله. والمراد بالركوع: الخشوع والخضوع: أي يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم خاشعون خاضعون لا يتكبرون؛ وقيل هو حال من فاعل الزكاة. والمراد بالركوع هو المعنى المذكور: أي يضعون الزكاة في مواضعها غير متكبرين على الفقراء، ولا مترفعين عليهم؛ وقيل المراد بالركوع على المعنى الثاني: ركوع الصلاة، ويدفعه عدم جواز إخراج الزكاة في تلك الحال، ثم وعد سبحانه من يتولى الله ورسوله والذين آمنوا بأنهم الغالبون لعدوّهم، وهو من وضع الظاهر موضع المضمر، ووضع حزب الله موضع ضمير الموالين لله ولرسوله وللمؤمنين. والحزب: الصنف من الناس، من قولهم حزبه كذا، أي: نابه، فكأن المتحزبين مجتمعون كاجتماع أهل النائبة التي تنوب، وحزب الرجل: أصحابه، والحزب: الورد. وفي الحديث: «فمن فاته حزبه من الليل» وتحزّبوا: اجتمعوا. والأحزاب: الطوائف.
وقد وقع، ولله الحمد ما وعد الله به أولياءه وأولياء رسله، وأولياء عباده المؤمنين من الغلب لعدوّهم، فإنهم غلبوا اليهود بالسبي والقتل والإجلاء وضرب الجزية، حتى صاروا لعنهم الله أذلّ الطوائف الكفرية وأقلها شوكة، وما زالوا تحت كلكل المؤمنين يطحنونهم كيف شاءوا، ويمتهنونهم كما يريدون من بعد البعثة الشريفة المحمدية إلى هذه الغاية.
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، وابن عساكر، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبث بأمرهم عبد الله بن أبيّ بن سلول وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وكان أحد بني عوف بن الخزرج، وله من حلفهم مثل الذي كان لهم من عبد الله بن أبيّ بن سلول، فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم.
وفيه وفي عبد الله بن أبيّ نزلت الآيات في المائدة {ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاء} إلى قوله: {فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون}.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أسلم عبد الله بن أبيّ بن سلول، ثم قال: إن بيني وبين قريظة والنضير حلفاً، وإني أخاف الدوائر، فارتدّ كافراً.
وقال عبادة بن الصامت: أتبرأ إلى الله من حلف قريظة والنضير وأتولى الله ورسوله، فنزلت.
وأخرج ابن مردويه أيضاً من طريق عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جدّه نحو ذلك.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة فذكر نحو ما تقدّم.
وأخرج ابن جرير، عن الزهري قال: لما انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من يهود: آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر، فقال مالك بن الصيف: غرّكم أن أصبتم رهطاً من قريش لا علم لهم بالقتال، أما لو أصررنا العزيمة أن نستجمع عليكم، لم يكن لكم يدان بقتالنا، فقال عبادة، ذكر نحو ما تقدم عنه وعن عبد الله بن أبيّ.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في هذه الآية: {ياأيها الذين آمَنُواْ} قال: إنها في الذبائح: «من دخل في دين قوم فهو منهم».
وأخرج عبد بن حميد عن حذيفة قال: «ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر، وتلا {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}».
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عطية {فَتَرَى الذين في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} كعبد الله بن أبيّ {يسارعون فِيهِمْ} في ولايتهم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، والبيهقي في سننه، وابن عساكر، عن قتادة قال: أنزل الله هذه الآية: {ياأيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِه} وقد علم أنه سيرتدّ مرتدّون من الناس، فلما قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم، ارتدّ عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد: أهل المدينة، وأهل مكة، وأهل الجواثي من عبد القيس؛ وقال الذين ارتدّوا: نصلي الصلاة ولا نزكي، والله لا تغصب أموالنا، فكلم أبا بكر في ذلك ليتجاوز عنهم، وقيل له: إنهم لو قد فقهوا أدّوا الزكاة؛ فقال: والله لا أفرّق بين شيء جمعه الله، ولو منعوني عقالاً مما فرض الله ورسوله لقاتلتهم عليه، فبعث الله عصائب مع أبي بكر، فقاتلوا حتى أقروا بالماعون، وهو الزكاة.
قال قتادة: فكنا نتحدث أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وأصحابه، {فَسَوْفَ يَأْتِى الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} إلى آخر الآية.
وأخرج عبد ابن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في الدلائل، عن الحسن نحوه.
وأخرج ابن جرير، عن شريح بن عبيد قال: لما أنزل الله: {ياأيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِه} الآية، قال عمر: أنا وقومي يا رسول الله؟ قال: «لا بل هذا وقومه»، يعني أبا موسى الأشعري.
وأخرج ابن سعد، وابن أبي شيبة في مسنده، وعبد بن حميد، والحكيم الترمذي وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والطبراني، وأبو الشيخ وابن مردويه، والحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل، عن عياض الأشعري قال: لما نزلت: {فَسَوْفَ يَأْتِى الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هم قوم هذا»، وأشار إلى أبي موسى الأشعري.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، والحاكم في جمعه لحديث شعبة، والبيهقي وابن عساكر، عن أبي موسى الأشعري قال: تليت عند النبي صلى الله عليه وسلم {فَسَوْفَ يَأْتِى الله بِقَوْمٍ} الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قومك يا أبا موسى أهل اليمن».
وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم في الكنى، والطبراني في الأوسط، وأبو الشيخ، وابن مردويه بسند حسن عن جابر بن عبد الله قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِى الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه} الآية، فقال: «هؤلاء قوم من أهل اليمن، ثم كندة، ثم السكون، ثم تجيب».
وأخرج البخاري في تاريخه وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في الآية قال: هم قوم من أهل اليمن، ثم من كندة ثم من السكون.
وأخرج ابن أبي شيبة عنه قال: هم أهل القادسية.
وأخرج البخاري في تاريخه عن القاسم بن مخيمرة قال: أتيت ابن عمر فرحب بي، ثم تلا {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى الله بِقَوْمٍ} الآية، ثم ضرب على منكبي وقال: أحلف بالله إنهم لمنكم أهل اليمن ثلاثاً.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن عطية ابن سعد. قال في قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ} إنها نزلت في عبادة بن الصامت.
وأخرج الخطيب في المتفق والمفترق عن ابن عباس قال: تصدّق عليّ بخاتم وهو راكع، فقال النبيّ للسائل: «من أعطاك هذا الخاتم؟» قال: ذاك الراكع، فأنزل الله فيه {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ}.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت في عليّ بن أبي طالب.
وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه، وابن عساكر، عن عليّ ابن أبي طالب نحوه.
وأخرج ابن مردويه، عن عمار، نحوه أيضاً.
وأخرج الطبراني في الأوسط بسند فيه مجاهيل عنه نحوه.